"الصامت" رواية استقصائية صنعها الأديب المبدع"

تابعنا على:   17:13 2022-08-14

مصطفى النبيه

أمد/ يوثق الأديب شفيق التلولي من خلال روايته مرحلة تاريخية، تمتد منذ العهد العثماني، مروراً بالانتداب البريطاني وواقع الاحتلال الإسرائيلي وحصاره اليوم لقطاع غزة، معتمداً على البحث الاستقصائي مضموناً، أما شكلاً فبنى روايته من خلال خليط مزج فيه ما بين الواقع والخيال وعرّج على الخرافة ليسرد لنا مرحلة تاريخية تعد مفصلية في حياة الشعب الفلسطيني وبانسيابية صنع عالما من المعرفة بأسلوب المغامرة والتشويق واسترجاع الماضي ليسهم في تركيبة فنية جذابة. حيث انطلق يحلق بنا عبر الأزمنة ويطوف في الأمكنة ليسرد الحكايات ويسلط الضوء على التجربة النضالية للشعب الفلسطيني ليهدي للأجيال القادمة المعالم الرئيسية للموروث الثقافي الذي حاول الاحتلال الإسرائيلي طمسه، وأصبح إحياؤه يؤرق كل مثقف وطني حر. فمن لا يملك ماضيا لن يكون له حاضر أو مستقبل. فتوثيق تاريخنا واستعادة وجمع تراثنا المنهوب هو هدف رئيسي لكل وطني غيور على قضيته. فلقد روج زعماء الاحتلال الصهيوني عندما احتلوا فلسطين أنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، لذا تكالبوا على سرقة التراث وخلع أي أثر أو ملمح يثبت علاقة الفلسطيني في وطنه. وهذه الرواية كغيرها من الروايات التاريخية تعد وثيقة مهمة تدحض ادعاء المحتل وتدل على أنَّ الفلسطيني متجذر في أرضه له تاريخه وتراثه. ففي صفحة 60 يقول الروائي على لسان بطل حكايته "أمين " : بعد زمان أيقن بعض آبائنا الذين أمعنوا في التأمل واستدعاء الماضي البعيد الذي باعد بينهم وبين أوطانهم المستلبة أنَّ الصهاينة الذين اغتصبوا بلادهم هم ذاتهم من يسرقون تراثهم بصياح ذلك الجاهل الذي يبتاع ثياب نسائهم القديمة فلفظوه . هذه الإشارات التي وردت في الرواية تضعنا أمام مسؤولية تاريخية للحفاظ على جذورنا وتوريثه للأجيال القادمة كي يكون سنداً لهم في مرحلة التحرر. ففي صفحة 176 يقول "أمين " بطل الرواية ": كيف لي نقل رفات جدي ونثرها في تلك البئر؟! قبضت حفنة تراب من جوار الضريح وقررت العودة بها إلى البئر العتيقة". وبعودة حفنة التراب من رفات الأجداد التي تمثل جذورنا سنعيد للأرض خصوبتها ونمنحها حياة.. اختار الروائي اسم "الصامت" لروايته وهو اسم صادم في زمن الضجيج والفوضى المنظمة، " الصامت" اسم فاعل للفعل صمت ونعت للذي يقوم بفعل الصمت، فالصمت لغة تعبيرية أقوى من الكلام وتحكي الكثير وهذا ما سنراه في الرواية، فاختياره أسماء الشخصيات لم يأتِ عشوائياً، بركات، سلامة، الصامت، المنسي، أمين، دالية، سليم الأعرج وآخرون جميعهم يترجمون الطبيعة التلقائية وبساطة الشعب الفلسطيني الذي يعيش الروحانيات. التقيت قبل فترة من الزمن بصحفية أمريكية وعندما سألتها: ما الشيء المختلف الذي رأيتهِ بالشعب الفلسطيني في غزة؟ قالت مبتسمة: سر قوة هذا الشعب أنه يحب الله ويعيش الروحانية والإيمان المطلق، فالشعب يستمد قوته وصبره وصموده من عشقه للخالق. هذا ما وجدته وأنا أغوص في صفحات الرواية .. وجدت البساطة والتعاون وحب الوطن والروحانية العالية التي تتدفق من بين السطور وتعبر عن طبيعة الشعب المعطاء، ففي صفحة 150 تتحدث الراقصة أم سوسن عن الفتاة التي ربتها بعد أن استشهد والدها يوم احتلال غزة وعملت معها كراقصة، كيف أصرت أن تخفي المخطوطة ثم قررت أن تترك مهنة الرقص وتلتحق بالمقاومة وتسقط شهيدة في لبنان. استخدم الروائي الأسلوب الرمزي بشكل ملحوظ في بناء عناصر روايته ، بداية من المخطوطة التي توثق تاريخ الشعب الفلسطيني ومكوناته والذي تعرض للتزييف والتشويه ، وشجرة الجميز التي تعبر عن القوة والخلود وتمثل أيضاً في هذا العمل وحدة المكان، فمصدرها أسوان وقد جاؤوا بها إلى فلسطين منذ زمن بعيد وبهذا تم تحديد الأمكنة التي تدور بها الرواية ، الجمل الطائر سفينة الصحراء و يرمز إلى رحلة الشقاء المعجونة بالصبر. والبئر يرمز لقصة يوسف عليه السلام وخيانة الإخوة ، الكهف والأفاعي ، هما رموز نقيضة للحياة، تعني الموت. تناقضات غريبة فرضها الواقع على العمل فتخطفك الرواية وتأسرك في رحلة التيه.
يسرد الروائي شفيق التلولي من خلال رواية الصامت يوميات المواطن الغزي في الزمن الحاضر وهو يقبع تحت الحصار ويوثق الواقع المعيشي المذل وما نتج عنه من ضغوطات نفسية وقهر ومشاكل اقتصادية وانقطاع للتيار الكهربائي وتأثيره على الحالة النفسية للمواطن الفلسطيني وما يتبعه من عنف وأمراض في المستقبل. عبّر عن حاضرنا بدون تزييف وكأننا أمام كاميرا مباشرة تنقل الواقع المزري البائس، فمن خلال عينيه نطوف في المدينة، يفيض بنا الحزن ونحن ندور في دائرة مغلقة.. نعيش الصامت، المنسي وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن بصورة وحشية بشعة مقززة. مازال المبدع الفلسطيني ينزف قهراً، أسيراً للمأساة التي تنهض كل يوم بأبشع صورها. يستمد تجربته من الواقع المجتمعي ومجتمعه الخاص وثقافته المعرفية وتجربته في رحلة الحياة. وبخصوص هذا العمل يتضح أنَّ الكاتب مثقف سياسياً ودينياً ويتمتع بخبرة ومعرفة شمولية،
حيث اعتمد الأديب المبدع عندما أتحفنا بهذا العمل الفني المميز على
تجربته الشخصية وجعلها محور الحدث ، فبطل المكان قريته "دمرة" التي هجر منها هو وعائلته ، فما بين داليا الكرمي الفلسطينية المهجرة القادمة من مصر و"أمين" البطل الرئيسي والجدة التي تسرد الحكايات ينهض شفيق التلولي يحمل هذه المفردات ليرسم لنا رحلة البحث عن الذات، لذا نسمع صراخه منبعثاً من بين السطور وهو يعيش هول الأثقال التي تجعله في حالة تيه واغتراب، فما بين بئر وبئر تتضح معالم الصورة. "أمين" بطل الرواية يعمل في مجال الكتابة والصحافة وينشط في تناول القضايا الإنسانية. يلتقي بدالية الكرمي المهجرة التي جاءت لهذا الكون من خلال أب فلسطيني وأم لبنانية تزوجها في تشيلي، تحضّر دالية للدكتوراة، فهي الباحثة في علم المخطوطات، وخلال بحثها في إحدى المخطوطات التاريخية تتناول سلالة عائلة أمين التي ترمز للتاريخ الفلسطيني كنموذج لتعبر عن معاناة شعب يعيش المأساة و التشرد والتهجير، كاتب العمل يسخّر تجربته الشخصية والمعرفية ليوثق التاريخ بعد بحث وتقصي عن الجوانب الإنسانية وعلاقة الفلسطيني بأرضه معتمداً على حكاية الجدة وخيالها الخصب معززاً روايته بالأغاني التراثية والألعاب الشعبية، فنرى "أمين" بطل الرواية مشغولا بكتابة عمل روائي يتناول قضية معاناة الأسرى وتهريب النطف ، والحب من خلف القضبان. برغم حساسية القضية وأهميتها إلا أنه يتوقف عن كتابتها ويغوص في عمق القضية المركزية، قضية البحث عن الذات واستعادة التاريخ بعد أن تم تشويهه في بريطانيا.. ففي صفحة 140 يقول :" بعدما علمت من جدتي أن المخطوطة التي كانت بحوزة المنسي أودعت بطرف الإنجليز والصهاينة خلال فترة وجوده بالسجن وهذا ما يؤكد لي أنهم قد زوروا ما جاء في المخطوطة " يلبس الروائي شفيق التلولي شخصية " أمين " بطل روايته ويحكي بصوته، وهذا الاسم له دلالاته.. فمن يحمله عليه أن يكون أميناً بالبحث عن الحقيقة في زمن الانحدار والزيف والاستبداد وسرقة الحقوق ، فعندما رأت العجوزة النوبية، "أمين " المثقف المثقل بالهموم والباحث عن جذوره ، في صفحة 170" نظرت إليّ وأشارت بيدها صوب باب البيت.. " رجع الصامت رجع المنسي يا أولاد ". فالصامت المنسي يولد في كل الأزمان ثائرا لا يهزم .. يعيش بمليون صورة تعبر عن الفدائي الحقيقي، ففي صفحة 145 أكملت الجدة قائلة : سمعت من كبار البلدة أنه بعد تلك الحادثة كثرت الحكايات والأقاويل وتعددت الروايات، قال قائل منهم إن المنسي قد ألقي القبض عليه وأسر وحمل إلى لندن وحوكم هناك ، ومنهم من قال إنه ألقي في البئر، وبعضهم ادعى أنه شاهده يصعد من البئر لأعلى في اليوم التالي حتى تلاشى ، بينما أشار أحدهم إلى قبره على مقربة من القرية مدعياً أنه شاهد الإنجليز والصهاينة يدفنونه بعد أن أطلقوا النار عليه " فالأرواح التي تعشق لن تنطفئ .. ستبقى تحلق ولن يستطيع أي طاغوت انتزاعها. تأثر الراوي بسورة يوسف عليه السلام عندما ألقاه إخوته في البئر وتخلوا عنه وأصبح بالنسبة لهم نسياً منسياً، أسقط الحكاية على التجربة الفلسطينية ووظفها بشكلها الصحيح. ففي صفحة 108 يقول : " جاءت الساحرة مرة فالتقطته وطارت به على تلك البلاد قبل أن يسخطها الرب ويعيد الذئب إلى آدميته يرعي ويعوي حول آبار يعقوب الكنعاني، نسوا أن الرب قد أبرأ الذئب من دم ابن آدم ". وهنا يبدأ المنسي يسلك الطريق إلى مصر أرض الكنانة ويستقر في أسوان. بلاد النوبة أقدم مدن مصر والتي تحتوي على العديد من الآثار والمعالم الحضارية العريقة، موطن الجميز الأصلي الذي يعد بطلا في رواية "الصامت" وهي الطريق للبشارة والفرج والنصر، تيمناً بالنبي يوسف عليه السلام، وفي صفحة 93 عندما غط في نومه، استيقظ على همس الصامت مرتجفاً، كان آخر ما نطق بها: "لا تترك هذا المكان أو تبتعد، إن حدث وتركته، فلتعد، وحتى تعود قلها ومت، قلها لتعد". وعندما توجه المنسي لأبيه الشيخ سلامة لتفسير الرؤية قال له: " لا تقصص رؤياك على أحد " . فلو حاولنا استرجاع الماضي وربطه في الحاضر لتجسدت الصورة الحقيقية للنكبة والنكسة والانقسام، عندما سلم الفلسطيني مفاتيح قضيته لإخوته وسخّر نفسه ليكون جنديا تحت إمرتهم ..التزم الصمت وبدأ يراقب لحظة التحرر حتى تناسوه وأصبح الصامت، المنسي.
المبدع هو الأكثر حساسية ينبع عاطفة، لذا نراه مثقلا بالهموم، معجونا بالوجع. الروائي شفيق التلولي استطاع التشبيك بين الأزمنة بخلطة سحرية بين الفنتازيا والخرافة والواقع ليتحايل على آلية بناء الرواية ويسرد حكاية شعب تلقائي عفوي بسيط، يعيش الروحانيات، يعشق الأرض ويثق في الجميع بشكل مطلق، لذا عاش التشرد والتيه. فمنذ حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام مروراً باحتلال فلسطين على يد البريطانيين والاحتلال الاسرائيلي، نتابع بين الصفحات توثيق استبسال المقاومة العربية الفلسطينية للهجرة اليهودية وما نتج عنها من إعدام الشهداء الثلاثة في سجن عكا محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، كما يرصد الروائي النكبة التي لحقت بالشعب الفلسطيني والمآسي الإنسانية. ففي صفحة 88 يصور لنا حكاية الأم التي توسلت للقبطان ليعيدها لميناء يافا، لعلها تعثر على ابنها بعد أن فقدته.. وعندما رفض خوفاً من الصهاينة، ألقت بنفسها في البحر ، غاصت إلى القاع ولحقها زوجها فابتلعهما الماء .
المنسي، الصامت، شخصية واقعية تتكرر في كل الأزمنة والأمكنة، قاومت ومازالت تقاوم ،فهو الفلسطيني الأصيل.. طائر العنقاء الذي يخرج من الرماد أقوى، فهناك ألف صامت ومنسي لم تثرْه الأضواء، أحب ومازال يحب فلسطين ويناضل حباً لا طمعاً. ينوه الكاتب في صفحة "5 "بأن" الشخصيات والأسماء والأشخاص الواردة في الرواية مستلهمة من الخيال، وأي تشابه مع الواقع محض صدفة ". يبدو أنًّ الكاتب يخشى أنْ يغرق في بحر التشكيك وبأنه يوثق سيرة ذاتية لبطل ما، فهو يوثق حالة لا أشخاصا، يريد أن يتحرر من البطولة الفردية ويتغنى بالحالة الجماعية، فالقضية بالنسبة له أشمل وأعم. تغنّى الروائي بجذور الفلسطيني وأغانيه وألعابه الشخصية، فالرواية تعج بهذا الموروث الجميل. ففي صفحة 150 يقول: "كنت كلمة السر لأم سوسن الراقصة "جمال ابن جمال، سرقوا لك جمالك، فترد أم سوسن "سيفي تحت رأسي ما بسمع كلامك". وفي صفحة 21 تقول الجدة توته، توته خلصت الحدوتة بتحب الزيت ولا الملتوتة وإذا ما قلت الزيت، قالت: عليك خريفة البيت ولو قلت الملتوتة قالت: عليك الحدوتة ،وفي صفحة 24 ، 25 يقول : "جئت لك من بلاد بعيدة أحمل في جُعبتي كنوزاً ثمينة جلبتها من صندوق العجب بعد أن وجدته على شاطئ بحر عتيق ".
نحن أمام رواية معطرة بعبق الأجداد، فجوهر الرواية هو ما يكمن داخلها من فكر وجماليات، فهي كتبت بلغة نثرية جذابة تشدو الموسيقى. ولكن ما يؤخذ على الرواية أن غالبية الشخصيات فقدت ملامحها بأبعادها الثلاثة النفسية والفسيولوجية والاجتماعية وطغى عليها صوت الكاتب العليم شفيق التلولي، وفي النهاية أبارك للأديب المبدع إصدار رواية "الصامت"، الوثيقة التاريخية الفنية التي ستكون يوماً من أهم المراجع للأجيال القادمة.

كلمات دلالية

اخر الأخبار